خالد خضير/ ناقد تشكيلي
حينما كتب النقاد عن تجربة كاندينسكي التجريدية الاولى ، وكانت مجموعة صغيرة من اللوحات (التجريدية)، كان هؤلاء يشخصون فيها اشكالا ومشخصات وانماطا من بنى حكائية وفرسانا ومعارك وجبالا واقواس قزح وقمما جبلية تكسوها الثلوج!! ، فارتد الكثيرون ورأوا ان كاندينسكي لم يكن رساما تجريديا الا من الوهلة الاولى او وجهة نظر السطحية فقط، وذلك ما ينطبق، تمام الانطباق على الرسام العراقي المقيم حالياً في كندا هاشم حنون.
سأستعرض اولا خلاصة صغيرة لنسغ تحولاته الاسلوبية الماضية على عجل لأصل الى اخر مراحله التي قدمها في معرض (مسلات الطين 2004) ، فقد تطورت أشكاله وكشوفاته ، وفهمه للرسم ومهماته ، خلال سنوات طوال قضاها محترفا الرسم في البصرة ، وقد كنت قريبا منه طوال تلك السنوات وسنواته اللاحقة في عمان بحكم اقامتي فيها قرابة الخمسة اعوام، كانت متابعتي له فيها دائمة ، فتوفرت لي فيها اكتشافات لمناطق اعتقدها خبيئة و سرية في منجزه الإبداعي، كشوفات قد تكون مرت دون أن يلحظها الآخرون ، مضيفا لها ما اتلمسه بزيارتي الدائمة لموقعه على شبكة الانترنت وخلال زياراتي الأخيرة التي اقوم بها الى مشغله في عمان (جبل لويبدة) حيث يقيم قرب المتحف الوطني للفن في الاردن، وكأنه بهذه المجاورة للمتحف يستمد نسغا روحيا من ذلك المكان.
ان الاستراتيج العام الذي اتبعناه في تتبع منجز احد الفنانين طوال حقبة واسعة هو البحث عن تحولات ما يسميه جورج كوبلر (المتتابعات الشكلية)، حيث سنحاول “تتبع النسغ التحولي الذي سلكته مسيرة المتوالدات الأسلوبية المستمرة من مرحلة إلى أخرى للفنان ، بتتابعها التاريخي ، بعد أن صارت تاريخا، وامتلكت بذلك استقرارها ووضوحها الرؤيوي والدلالي وإمكانية تسجيلها كتاريخ و إعادة وضعها في مكانها المناسب من المعاينة النقدية مجددا، بطريقة قد تعمق مقتربنا منها اكثر”.
فبعد ان قضى هاشم حنون زمنا، في بداياته، مقتنعا بطروحات عدد من النقاد، خلال حرب الثمان سنوات، الذين كرسوا الرسم التعبيري باعتباره الخيار النهائي للرسم العراقي، اتجه بكليته الى (الرسم التجريدي) ومحاولة تطوير رؤية ادت في النهاية، حسب وجهة نظري التي دونتها في عدد من مقالاتي عنه، الى ترسيخ ما اسميته وقتها (المتجهات الاسطورية) وفيها كان الرسام هاشم حنون يوزع أشكال لوحاته ومراكز الثقل فيها اعتمادا على بعض من الأنظمة الخفية التي أسميتها (البنية الهيكلية المتجهة) والتي تم تأسيسها على فهم يقسم السطح التصويري للوحة الى منطقتين طوبوغرافيتين تبعا لدرجة قداستهما، مما انتج بنيتين هيكليتين متجهتين هما: البنية الهيكلية الأفقية التي تجسدت: بمواكب تشكلها دائما كتلة أشخاص تتجه وجهة عرضية أفقية من اليمين الى اليسار دائما، وقد نجد جذورها في الفن العراقي الرافديني القديم ضمن مشاهد التقديم الكلاسيكية في الأختام الأسطوانية، وبنماذج احدث تصور موكب تشييع الشهيد لمحمود صبري، وفائق حسن، وفيصل لعيبي وهاشم حنون ذاته بلوحة الشهيد التي كانت من مقتنيات مركز الفنون في بغداد وغيرهم، وبنية عمودية (ارتفاعية) يمكن ان يجسد الشكل الناتج فيها نحتيا بالساعة الرملية ، حيث تترسب الارضيات وبقايا الجسد (التراب) ليتسامى الهواء (الروح) المقدس الى الجزء العلوي (السماء) . وتتجه فيها موجودات اللوحة الأكثر قداسة من الأسفل الى الأعلى رامزة الى صعود الروح وتساميها نحو خلود العالم الآخر (السماء).
لقد زامنت نهايات تلك المرحلة الثرية ، بذور تطور هام آخر كان يجر منجز الفنان نحو (التجريد) حيث تماهى شكل الكائن الذي كان يرتفع الى السماء قي لوحاته التعبيرية مع شكل المسلة الواضح ذي الكتابة المسمارية في تخطيطاته ولوحاته التعبيرية أواخر السبعينات ثم الى شكل يوحي بشاهدة القبر أوالقبة أوالمحراب أوالأهرام، وكلها وسائل للخلود او للوصول الى السماء مما شكل انتقالة باتجاه تراجع الموضوع الأدبي (النثري) بدرجة محسوسة وترسيخ تحول البطل شيئا فشيأ الى كائن رمزي دون ملامح شخصية محددة سوى ما يوحي به من ملامح وتركيبة ناتجة عن مزج أهم عنصرين من عناصر التكوين هما: التراب والماء ، حيث كان كائنه يتخذ شكل شواهد القبور والحجارة القريبة من الشكل الإنساني الذي لا يبتعد عن قدسية الحجارة ، فكانت النتيجة تجريدا لمزاوجة ميثولوجية سبق له ان اشتغل عليها في مرحلته التعبيرية التي مازجت بين جذرين ميثولوجيين هما الصخرة والمسيح اثناء الصلب (الصخرة كانت المسيح ـ الإصحاح العاشر العدد الرابع)، فتمت إعادة عكسية لتحولات الشاهدة ، التي هي ناتج عنصري الماء ( وخلقنا من الماء كل شيء حي ـ الآية) و التراب (كلكم لآدم وآدم من تراب ـ الآية) فتتألف الشاهدة من عنصري (الماء + التراب) ، ليتشكل منهما الطين الذي تتلبسه الروح وتقرضه الشمس كائنا يشبه الشاهدة ، أصابها الجفاف ، فانفصلت عناصره من جديد بعملية (ميثو ـ كيماوية) ، ليتخلف عنها: كائن حجر، يحتل قاع اللوحة ، ويرتفع الماء غيمة تسبح في الأعالي .
لقد اسس هاشم حنون التشاكل الصوري في معرض (مدن ملونة)، وهو أهم معارضه التي أقامها في عمان عام 2002 ، من علامات المدن واكتظاظها بموجوداتها وساكنيها: حشود من شخوص وأجزاء شخوص، وجوه، أطراف، بيوت، أجزاء بيوت، شبابيك، منائر وقباب جوامع مزججة وأئمة، أسواق، بضائع، جسور، إشارات، جدران، أرصفة، ذهب ونفايات، حيوانات سائبة، شواهد قبور، نخيل، طرق، تمائم، دوائر وأشكالا هندسية، عربات باعة، بقع، ضوء واقواس قزح، وسيل عارم من الرموز والأشياء والشفرات والمتاهات ،فاللوحة تبنى بشكل مسرب لوني يشقها طوليا يملؤه مثار من ألوان واشارات وشخوص ،وما عنّ للذاكرة ان تلقي بمحتوياتها ، حشد مكتظ تكتسحه قوة إعصارية ترفعه من قاع اللوحة الى الأعالي وعابري سبيلها دون ما اعتبار لمنطقية (الزمكان)، انه يعيد بنائها من فتات قرميدها ، وآثار جدرانها ، طبقة فوق أخرى ، بثراء لوني مدهش ، واكتظاظ شكلي بكل ما جمعته الذاكرة ، ليس من (علامات المدينة) وحدها بل ومخزونات مما رسمه الآخرون عنها ، منذ بواكير الفن العراقي المعاصر وحتى وقتنا الحاضر ، فكل لوحة من المعرض لا تحيلنا فقط لكمّ هائل من موجودات المدن ، معماريتها ، ناسها ، أطفالها ، عربات الباعة …. بل وتحيلنا الى كم هائل أيضا من فن العراق القديم و الرسوم العراقية المعاصرة التي اتخذ فيها فنانوها المدينة مرجعية ايقونية لهم ، و”حيثما يكمن سر المدينة: في كل ذرة تراب تطير اثر أية حركة داخل المحيط، فمسالك المدينة قد تكون مطبوعة على سحنة وجوه ساكنيها ، فمثلما البشر يتبادلون الأثر مع المنطقة التي يسكنون تكون وجوههم جغرافية محيطهم … ستكون الفرصة أوفر لساكن شوارع المدينة (المتجول الدائم) في اختبار روح المدينة، ففي الطرقات وعلى الأرصفة (مسارح عيوننا) لحظات زمن العابرين مخزونة في أثرهم المكاني، وفي الشارع (الطريق ـ الرصيف) الكل عابر ، لحظات فرار مستمرة كما الحاضر ، والوجود هش حيث الجريان السريع المحسوس للزمن ممثل بالأدوات ـ الأشياء ـ البشر انه مغزى الحياة المتقارظ مع سكون البيت وحدوده (القبر)” كما ذكرت ببلاغة هناء مال الله، بينما جاء معرضه (مسلات الطين) ، ليودع تجربة (المدن الملونة)، وكان بفعل تغييرجذري: في فهمه لدور السطح التصويري ، ليس باتجاه التجريد فقط ، بل باتجاه محاولة تحقيق اكبر اقتراب من المادة التي يشتغل عليها ، وعبر معالجة تقنية لأحافير اقتطعها من نسيج حائط ، ومن قطعة جنفاص عتيقة متهرئة (عندما يلصق خرقا من الجنفاص المتهرئ على سطح اللوحة) ، وربما من أي سطح صدأ ترك الزمن بصمة مكوثه الطويل عليه ، او مقطع عرضي اخضع لمعاينة مجهرية ، والأهم من كل ذلك ، حدوث تحول مهم في فهمه للوحة ، منذ سنوات قليلة ، باعتبارها حقلا (سطحا) مسكونا بالأصباغ والخطوط والأشكال ، يخضع لضروب شتى من تجارب الفنان الشكلية والتقنية ، اكثر من كونها موضوعا حكائيا يلتصق بالمعنى، أي بمعنى آخر ان تمثل اللوحة شيئا، اكثر من ان تكون تشبيها لشيء. نحن نعتقد أن الحيوية الكامنة في هذا المنجز، كرستها محاولة الفنان الواعية باصطفاء صور من متعرجات الواقع المرئي يوميا : آثار و لقى و أحافير وعلامات، تشاكلها صـور مستثارة من ذاكـرة (معرفية) صقلـتها الخبرة ، هي ليست بالضرورة ذاكرة الفنان وخبرته وحده، لكنها بالتأكيد، ذاكرة خزنت نماذج لا حصر لها من (كتابات أولى) مستمدة من مراجع شتى، فان الاعمال التي نتعرض لها الان قد تشكل مرحلة تبدو عرضية في تطوره الفني، بسبب قلتها، الا انها ما زالت تتبع نفس استراتيج هاشم حنون فتؤسس لوحاته السابقة على تطوير واع من مزيج من خلاصات تجاربه السابقة ، وهي هنا معارضه: مدن ملونة وفضاءات ملونة، مع كائناته الحجرية الاولى. ويمكن تلمس الامتلاء الواعي والاحتفاء غير المحدود بموجودات الواقع تلك، في هذه ألاعمال،وان من وراء حجاب، فهاشم حنون لم يعرف التجريد ويمارسه، كما يفعل الكثيرون، فقد كانت ذاكرته الاستثنائية تفرض سطوتها عليه ، فما شاهده ذات مرة في مكان او في ركن مهمل او جدار، سوف يستعيده يوما ما ، إنها (موديلات جاهزة) رهن ذاكرته ، يستل منها ما يشاء ، دون ان يعرف كيف ومتى يحدث ذلك . ورغم حرصه الواعي على إخفاء (مصادره الواقعية) ، إلا ان مصدر الشيء (فكرة الشىء) او بكلمة أدق (بصمة الواقع التي لا تمحى) تكون قد تركت (علامة لا يمكن إزالتها) ، لأنها (الجرثومة الطوبولوجية) التي هيكلَ الفنان بناءَ لوحته عليها بطريقة لاواعية منذ وضع أولى لمساته على سطح اللوحة . فرغم الحرص الواعي للفنان على إخفاء مصادره الواقعية ، فهو لم يتمكن إلا من قمع بعض العناصر الأولى حيث تظهر بضعة اختيارات من جزئيات الشكل ، بينما قمعت تفاصيل محددة من اجل إفساح المجال للمتلقي ان يردم الفجوة باضافة عناصرها المكملة ، إنها ذاكرة تمتد الى الفن العراقي الرافديني القديم الذي تمثله ثقافيا و جينيا، ولكنها تقمع باتجاه ان تتحول نحو اشكال الجذور الاولى التي كرسها حنون مرتكزات لتجربته الاولى.
لقد لفتت نظري خمسة اعمال (مجسمة)، شكلت مجموعة اعمال استثنائية، من وجهة نظري، وقد عرضها في موقعه على الانترنت وفي معرضه الاخير (مسلات الطين 2004)، كما شاهدتها وصديقي هاشم تايه في زيارتنا المشتركة لمشغل هاشم حنون اوائل عام 2005 ، وكانت تنتمي ، في جذرها البعيد، الى كل تلك الاعمال الاولى وجذرها الميثولوجي الاول: الحجارة والقداسة اولا، ثم انتهى ذلك التشاكل مع حرائق المدن التي استوطنت ذاكرته طوال سنوات الحروب التي مرت بها مدينتنا البصرة ومر بها شخصيا ثانيا، فامتلأت اللوحة بطبقات حزن كثيف، وأشباح سوداء من البشر ، وهي ترقب بعضها بعضا، وترنو المشاهد بنظرة صمت كئيب وبذلك لا يختزل هاشم حنون تاريخ المدن التي وطأتها قدمه فقط ، بل وتاريخ الرسم العراقي و (المديني) منه بشكل خاص!.
يختفي الضوء من مدينته الحجرية هذه، فتختفي الشمس .. ويهيمن الظلام الاسود الفاحم بقوة ..فمثلما تكوّن المشهد في (مسلات الطين 2004) من مهيمنتين: الطابع الحجري حيث الطين الجاف او المفخور، والوجود البشري (حيث: المدن، المسلة، الكتابة، التاريخ، المدونات، آثار الناس والعابرين)، فكانت مزيجا من المدن الملونة التي عايشها هاشم حنون في صباه، والمدن الحرائق التي افنى شبابه في حرائقها، والمدن الحجر التي انتهى اليها مقيما في عمان الان.
وكما كانت سيبيلا، عرافة كوماي، “اذا جاءها من يطلب منها حكمتها ونبوءتها، قذفت اليه بحفنة من الاوراق، وقد كتبت على كل ورقة حرفا، وعليه عندئذ ان يجمع بين الحروف ويرتبها بطريقة ما لكي يستخلص منها حكمتها ونبوءتها .. وانشغلت بالمصير فكان عليها ان تحلم بالكمال المصنوع من الشظايا والكسر” (سعيد الغانمي، منطق الكشف الشعري، 1999، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، ص 107)، انشغل هاشم حنون ببقايا وشظايا المدن وكسرها فكان يلقي لنا نحن المتلقين اوراقه وكسره لنقرأ نبوءته ونفهم حكمته ونعيد تأسيس مدنه المبعثرة، ولم يكن محايدا تجاه مصير مدينتهالحجرية المحترقة تلك بل كان يبكي في داخله احتراقها!.