- عمر فيصل /السويد- ستوكهولم
أي البدايات ترقى لتكون بداية نصي؟؟..
أهي تلك التي تحكي حكاية غربتي وانتقال جسدي من بلد الى بلد، هربا من الموت المحتم. أم روحي التي لا تزال تتنقل بين شوارع بغداد، مسقط رأسي التي يسميها الناس مدينة ألف ليلة وليلة، أو تتنفس رائحة تراب البصرة حيث طفولتي أو تسير على ضفاف نهري دجلة والفرات حيث كانت لوعة روحي الأولى ؟؟.
آه أيها الوطن كم أنت لعنة لمن يتركك، وكم أنت نقمة لمن يعيش فيك، وما أدراك يا من تقرأ سطوري بالنقم التي عشتها مراوحاً بين وطنين عزيزين بصما اسميهما في فؤادي.قدر لعبد ربه أن يعيش مغتربا منذ طفولته، يتنقل وأسرته هنا وهناك، من الأردن،إلى مصر، فليبيا وتونس، ثم المغرب السعيد كأخر دولة عربية حط أهله رحالهم فيها، دون أن أعلم أنني مغادر ترابها يوما. بلد صباي، شبابي، دراستي، صداقاتي، كل أحلامي وطموحاتي، بلد الشمس الذهبية والسلام والمحبة. تتسارع الأيام وتتداخل فيما بينها، حتى أضحى نورها ظلاما لتنهي ما بدأت، وتشق لك طريقا جديدا تسير فيه وحيدا، متغلبا على كل العقبات التي تواجهك في حياتك، وترسم خطواتك بقلم الحبر، وتتحمل فيها مسؤولية أفعالك، فلم يعد لقلم الرصاص مكانا لتمسح ما خططته أخطاؤك.هي بدايتي الكبرى إذا، في إحدى أكبر دول اوروبا التي تتمتع بطبيعة خلابة لا مثيل لها ومناخ لم يعتد عليه بدني، وعلمها الأصفر والأزرق الذي يصادفني أينما وليت وجهي، العلم الذي يعتبر أحد الرموز القومية التي تعكس قرونا من التاريخ بين السويد وجاراتها من البلدان الاسكندنافية.
فيا أيها العربي المارق حدَّ الموت، والواصل إلى أرض غير أرضك وسماء غير سمائك، وجليد غير قيظ صحرائك. أطرح عليك سؤلاً وحيداً كالضربة القاضية في الملاكمة الحرة، كيف ستعيش وسط هذا الزمهرير؟…تتعدد المعاني التي يعنيها زمهرير السويد، فهو البعد عن دفء حضن الأم، البعد عن دفء اللغة التي احتضنت حاجاتنا منذ الطفولة، البعد عن الوطن .الزمهرير هو عكس الأمان الذي كان يحيطني به أبي عندما كنت انام في بيتنا، خال الذهن عما سأكله وأشربه في الغد. وهل سيأخذني النوم حتى تغيب الشمس، كما انا الآن، أم أن يد أمي الدافئة تمتد لتوقظني من حلمي السعيد؟؟.
كلا البلدين لهما طعم الحنظل في ذاكرة الزمهرير، والآن أيها العربي الذي يروضك البرد والحاجة إلى العمل والحاجة أن تتعلم لغة البلاد والحاجة أن تثبت نفسك وهويتك في بلد يحترم الجد والاجتهاد. بلد بسط ذراعيه لاستقبال كل غريب، لاجئ وعابر سبيل، ومد له يد العون وينير له الطريق. شعبه مكافح، متعاون، مثابر، محب للرياضة، يقدر ثمن الوقت، منفتح على العالم ومثقف بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، صغاره، شبابه وشيوخه، يقرأون في كل زمان ومكان، رفوف الكتب تجدها قرب محطات الحافلات وهي لعامة الناس.
حكومته تقدر شعبها و مستوطنيها، تحترم كل الأديان والأعراق، تحارب كل اشكال العنصرية من أجل بلد موحد، وتمنح كل ذي حق حقه.ما عليك اذا، إلا أن تتعلم لغة أهل البلاد فهي مفتاح كل باب، لتهبهم علمك، ثقافتك ومحبتك عبر لغتهم التي يفهمونها، فكل اللغات تعجز أن تقول للآخر أحبك، إن لم تقل ذلك له بلغته.أيها العربي الباحث عن خرافة العيش السعيد في غير وطنك. عليك أن تتعلم العمل الصعب، لكي تعيش، وتكمل تعليمك وتأخذ أهبتك لبناء عائلة سعيدة في هذه القارة السعيدة.تعرف أن وطنك الآن مريض، وتعرف أن أباك وأمك فارقاك لا لتحمل آهات وألام فراقك، فكل ذلك من أجل عينيك كي تعيش يوماً قادماً سعيداً.بالضبط كما تفعل أسماك السلمون التي تسبح مسافات طويلة عكس التيار صاعده المرتفعات و الشلالات إن وجدت حتى تصل الي منابع الانهار للتكاثر. فبعد هذه الرحلة المضنية والتي لا تأكل فيها، تتقاتل الذكور لكي تفوز بتلقيح بيض الأنثى التي تحفر له بذيلها وتتعاون مع الذكر في دفنه. وبعدها تموت كل الأجيال القديمة ذكورا و إناثا من فرط تعبها في رحلتها الطويلة تلك، لكنها قبل أن تموت، ضمنت للجيل القادم من نسلها حياة سعيدة مؤمنة ورخية.أخيرا وليس اخرا أيها العربي القادم من صحراء القيظ تغطى جيداً بمعطفك، فأمامك عمل شاق بإزاحة كل هذه الأكوام من الجليد من شارعكم الجديد في منفاك الجديد.فهي الحياة في كل الأحيان، وعليك أن تواجهها مبتسماً صلباً مؤمنا بقضاء الله وقدره، كأي مؤمن راض بما قُدر له في هذه الدنيا.
- مقال منشورفي كتاب “جسر بين الثقافات” الذي اعدته الاديبة المغربية الكبيرة زهرة زيراوي، وشارك فيه ثلة من الأدباء المنتشرين في شتى بقاع الارض، جمعتهم الغربة والكلمة الحرة في كتاب لربط اواصر المحبة بين الشرق والغرب.فشكرا لجهود سفيرة المحبة بين المغرب السعيد وبلجيكا دولة الأنوار والمعرفة، الاستاذة زهرة زيراوي، لما تحملته من اعباء اعداد الكتاب ومتابعة طبعه على نفقتها الخاصة، وتوزيعه مجانا على الادباء والكتاب في مختلف بلدان العالم.