وطن برس أونلاين

جريدة عربية مستقلة

أهم الأخبار ثقافة وفنون

في ذكرى رحيلها في 27/6/1993 ، ليلى العطّار ( هل كانت مُستهدَفة حقاً ؟ )

كتب / هادي ياسين 
هادي ياسين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصلٌ من كتابي ( جَوّابُ المُدُن ) ــ 2016
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصلتُ الى منزل عديلي ” توفيق ” في ساعة متأخرة من الليل . ما أن وضعت رأسي على الوسادة حتى اهتزت جدران المنزل إثر انفجار قريب . في اليوم التالي تبين أنه حصل جراء تفجير محلٍ للخمور على مقربة من ( ساحة ميسلون ) التي تبعد نحو 300 متر عن منزل ” توفيق ” .
التفجيرُ دمّر محلّين مجاورين و شقة ً سكنية فوقه ، لحسن الحظ أنها كانت فارغة . هذه التفجيرات يقوم بها أفراد ميلشيات ، لا يفقهون الدين و لا المذهب المتفرع من هذا الدين ، و أغلب الظن أنهم يقومون بذلك تحت تأثير المخدرات و بدفعٍ من مسؤوليهم ، في محاولة لمناكدة الأحزاب الأخرى ، لخلق إرباك للحكومة من أجل خلق فراغات لتسريب برامج ذات أهداف قصيرة لا علاقة لأصحابها بالعراق ، و هم غير معنيين بسلامته و مصلحته . توقيتُ الإنفجار و دويُّه ، في هذه الساعة من الليل و أنا عائدٌ من سهرة مع أصدقائي ، ذكّرني بتوقيت مماثل حصل عام 1993 بعد سهرة مماثلة لي مع أصدقائي في نادي ( جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ) في حي المنصور .
ففي منتصف نهار صيفي لاهب ، من ذلك العام ، في بغداد . كنا أنا و الكادر الفني لبرنامجي التلفزيوني ( فنون تشكيلية ) الذي كنت أعده و أقدمه من تلفزيون العراق / القناة الثانية .. كنا في المركز الكبير للفن التشكيلي في بغداد و المسمى آنذاك ( مركز صدام للفنون ) ، و الذي تديره و تشرف عليه بمنصب المدير العام الفنانة الراحلة ” ليلى العطار ” .
كنتُ قد اخترت لنفسي أن أبتعد عن الطريقة التقليدية في تقديم البرنامج في ستوديو التصوير في مبنى الإذاعة و التلفزيون ، فرحت أصور حلقاته الأسبوعية داخل قاعات المعارض المنتشرة في بغداد ، مثل : قاعة ( الرواق ) ، قاعة ( عين ) ، قاعة ( نظر ) ، قاعة ( بغداد ) ، قاعة ( جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ) .. و غيرها ، ثم استقر بي المقام في المركز الذي تديره الراحلة ” ليلى العطار ” . و قد كانت كريمة معي كرماً فائقاً ، فعرضتْ علي أن اتمتع بحرية كاملة في اختيار أية زاوية و أية قاعة و أي طابق من المركز ، بل ذهبت بكرمها الى أن تأمر العاملين بفتح الطابق الرابع لي في أي وقت أشاء ، و هذا الطابق كان مقفلاً على مدار أيام السنة و لا يُفتح إلا في مناسبات خاصة جداً ، فقط أمام الرؤساء و الملوك و الوزراء و غيرهم من ضيوف العراق الكبار ، إذ يحتوي هذا الطابق على أعمال ثمينة و نادرة لفنانين عالميين كبار و مشهورين .
و أود أن أشير الى أن فكرة البرنامج قد ولدت ـ أصلاً ـ في مكتب المدير العام السيدة ” ليلى العطار ” ، عندما كنا ــ ذات ضحىً من عام 1986 ــ نشرب معها القهوة أنا و الفنان العراقي ( محمـد تعبان ) ـ المغترب حالياً ـ حين دار الحديث عن الثقافة الفنية في العراق و ضرورة تكثيف المطبوعات المتخصصة بالفنون التشكيلية ، و كذلك وجود برنامج تلفزيوني يُعنى بهذه الفنون ، خصوصاً بعد مرور سنوات طويلة على انقطاع الفنان ( نوري الراوي ) عن تقديم برنامجه الذي بهذا الخصوص ، فأقترحت عليّ ” ليلى ” أن أقوم أنا بإعداد و تقديم البرنامج ، لأنها تجد عندي ما يؤهلني لذلك ، و أيد اقتراحها الفنان ” محمـد تعبان ” ، و أعلمتنا أنها ستتصل بالدكتور ” ماجد أحمد السامرائي ” المدير العام لدائرة الإذاعة و التلفزيون ـ آنذاك ـ لغرض استحداث هذا البرنامج ، و طلبت من ” محمـد تعبان ” أن يتابع الأمر بعد حصول الموافقة عليه ، كونه يعمل في دائرة التلفزيون …. ثم ماهي إلا أسابيع حتى بدأت بتسجيل الحلقة الأولى من البرنامج الذي أسميته برنامج ( فنون تشكيلية ) ، فكان اعجابها به شديداً جداً . و مع تواصل الحلقات كان حديثها دائم التواصل عن البرنامج مع ضيوفها من الفنانين و المثقفين و المسؤولين ، و بلغ إعجابها بالبرنامج حد أنها أخبرتني ذات مرة بأنها تحرص على أن تكون في مكتبها في المساء الذي يُبث فيه البرنامج كي تشاهده بعناية خاصة .. بعيداً عما قد يشغلها في المنزل .
ثم حين أقيم مهرجان الفن التشكيلي العالمي الأول في بغداد ، وضعتني في الواجهة ، و خصصت لي غرفة في فندق ( المنصور ميليا ) الذي يقيم فيه ضيوف العراق من فنانين و نقاد قدموا الى بغداد من مختلف دول العالم .
و بمرور الوقت بات ( مركزصدام للفنون ـ سابقاً ) هو المكان المفضل لديّ لتصوير حلقات برنامجي . حيث لم أترك قاعة أو زاوية أو طابقاً أو ممراً في المركز إلا و صوّرتُ فيه حلقة ً أو أجريت فيه حواراً تلفزيونياً مع فنان تشكيلي أو ناقد ، و لم أترك عملاً فنياً من مقتنيات المركز أو معرضاً يقام فيه إلا و وثقته في أرشيف التلفزيون ، و الذي يقال أنه قد نُهب تماماً أبان أحداث عام 2003 .
و الواقع ، إن هذا المركز كان الملتقى اليومي للفنانين و النقاد و المثقفين العراقيين ، خصوصاً بعد أن خصصت السيدة ” ليلى ” أحد أجنحة المركز ليكون بمثابة ( كافيتريا ) و احدى القاعات لتكون مكاناً لتقديم المحاضرات و عرض الأفلام .
و لم يخل مكتبها ، يوماً ، من ضيوف تتجاذب معهم أطراف الحديث في شؤون الفن التشكيلي ، بخصوص أعمال فنية أو فنانين أو معارض أو ثقافة فنية عامة و تستشيرهم ، بتواضع جم ، في ما من شأنه أن يطور حركة الفن التشكيلي في العراق . و شخصياً أعتز بأنني كنت أحد ضيوفها الخاصين و المميزين عندها . فلا يمر أسبوع إلا و كنت أتناول معها القهوة في مكتبها الكبير ، المزدان بأشجار الظل و بالتحف و بالأعمال الفنية المختارة في مجال الرسم و النحت و الخزف ، فيما كانت الموسيقى الهادئة ترفرف في فضاء المكتب … و لا أذكر أنني غادرت مكتبها يوماً و لم ترافقني لغاية الباب . لقد كانت تفعل ذلك مع كل ضيف تحبه و تحترمه ، فهي لم تكن سيدة باهرة الجمال حسب ، بل كانت عبارة عن أخلاق راقية و لياقة و أدب جم في هيئة أنثى .
نحن في منتصف نهار السابع و العشرين من شهر حزيران ( يونيو ) من عام 1993 .. و قد كان مقرراً أن أصوّر حلقة جديدة من برنامج ( فنون تشكيلية ) في المركز ، و كنت قد سبقتُ كادر التصوير الى هناك بنحو ساعة ، لأنني كنت على موعد مع السيدة ” ليلى العطار ” . و في مكتبها رحنا نتحدث عن سير البرنامج ، و كانت تسألني هي فيما اذا كانت ثمة عقبات تواجهني كي تذللها ، ثم جرى الحديث عن فكرة كانت قد طرحتها عليّ قبل اسبوع من هذا اللقاء تتعلق برغبتها في إقامة احتفالية سنوية للبرنامج ، تدعو اليها نخبة من الفنانين و النقاد و الإعلاميين في بغداد ، مبدية رغبتها في أن تجعلها حدثاً ثقافياً متميزاً . و عندما خرجتُ من مكتبها هذه المرة لم توصلني الى الباب حسب بل واصلت السير معي لغاية المصعد و نحن نواصل الحديث ، ففيما كان كادر التصوير في انتظاري كانت هي ذاهبة الى وزارة الثقافة لحضور اجتماع هناك . و قبل أن تودعني طلبت مني أن أنتظرها في المركز ـ بعد التصوير ـ لغاية عودتها ، من أجل أن نكمل الحديث عن ترتيبات الإحتفالية ، و قالت لي : ( ربما سنتغدى معاً ) ، و اقترحت علي أن أغادر إذا تجاوزت الساعة الثالثة بعد الظهر و لم تعد .. و ودعتها و هي تدلف الى داخل المصعد .
و حين تجاوزت الساعة الثالثة ، و لم تعد السيدة ” ليلى ” ، قررتُ مغادرة المركز حسب اقتراحها .. و في الليل كنا نسهر ــ أنا و مجموعة من أصدقائي الفنانين ــ في نادي ( جمعية الفنانين التشكيليين ) .. و حين غادرنا النادي بعد منتصف الليل ، سمعنا دوي انفجار شديد ، و نحن في الطريق ، فقلنا أن ذلك تنفيذ عسكري للوعيد الأمريكي على خلفية التجاذبات و المناوشات السياسية بين بغداد و واشنطن آنذاك .. في عهد الرئيس الأمريكي ” بِل كلنتون ” .
لكن الذي حصل في اليوم التالي هو : أنه وسط ذهول ٍ و هول ِ صدمة ٍ مفاجئة ٍ فاجعة ، شيعت الجموع الغفيرة سيدة َ بغداد الجميلة الفنانة ” ليلي العطار ” … فقد كان توديعي لها ــ قبل أن تدلف الى المصعد ــ بمثابة ( الوداع الأخير ) دون أن أدري . إذ كان ذلك الإنفجار الشديد ناتجاً عن صاروخ أمريكي ضرب مسكن الراحلة فقتلها و زوجها .
و قد أشيع منذ ذلك اليوم ، أن الصاروخ الأمريكي كان يستهدفها هي تحديداً ، لأنها ــ كما تقول الإشاعة ــ كانت قد رسمت صورة الرئيس الأمريكي السابق ( جورج بوش ـ الأب ) تنفيذاً لأمر ” صدام حسين ” ، و قد وضِعت الصورة ـ من قبل السلطات ـ في مدخل ( فندق الرشيد ) كي تُداس بأحذية الداخلين الى الفندق و الخارجين منه ، و هو عمل لا أخلاقي في حقيقته ، و ينم عن تفكير صبياني لدى ” صدام ” و يتوافق مع أخلاقيات الشوارع و ليس الرئاسة .
من وجهة نظري ، فإنني لا أؤيد فرضية أن الراحلة كانت هي الهدف المحدد للصاروخ القاتل ، و ذلك للأسباب التالية :
* يقع مبنى جهاز المخابرات العراقية قريباً من منطقة سكنى ” ليلى العطار” ، و الإحتمال الأكبر أن هذا المبنى هو الذي كان مستهدفاً ، بسبب تحامل واشنطن عليه ، باعتباره مركز العقل السياسي و الأمني لـ ” صدام ” . لكن الصاروخ أخطأ هدفة فوقع على مسكن الراحلة .
* لم يُعرف عن الفنانة أنها كانت رسامة ( بورتريت ) و لا تشتغل بالفسيفساء التي تم تنفيذ الصورة بها على أرضية مدخل الفندق ، و بالتالي فأن ” ليلى العطار ” ليست هي مَن رسم الصورة .. هناك شخصٌ آخر مجهول هو الذي رسمها .
* من غير المنطقي أن تطلق الولايات المتحدة صاروخاً ـ يكلف البنتاغون آلاف الدولارات ـ من أجل قتل فنانة ( رسمت ) صورة للرئيس الأمريكي و وضعتها سلطات ” صدام ” في وضع مهين .
* تزدحم وسائل الإعلام في الولايات المتحدة بالصور و الطروحات التي تسخر من الرئيس يومياً ، فلماذا تضايق البيت الأبيض من ( الصورة ) في بغداد ؟
* اذا كانت واشنطن منزعجة من تلك الصورة في مدخل فندق الرشيد فلماذا لم توجه صاروخها الى الفندق ذاته ، واذا كانت دقيقة في توجيهه بحيث يضرب سيدة راقدة في سريرها ، فلماذا لم توجهه نحو الصورة المهينة ، و بالدقة ذاتها ؟
في تقديري : إن ما أشيع من أن الصاروخ استهدف الفنانة الراحلة ” ليلى العطار ” بسبب ( الصورة ) إنْ هو إلا إشاعة سربتها المخابرات العراقية آنذاك ، لإبعاد الشبهة غير الأخلاقية عن ” صدام ” الذي أمر بوضع الصورة في طريق نزلاء و مرتادي الفندق ، و بالتالي إلصاق الشبهة بالرئيس الأمريكي ( باعتباره استهدف سيدة و عائلتها من أجل صورة مهينة له شخصياً ) . هذا تفسيري .
بعد يوم من الحدث الجلل ، كنت أقف على أطلال سكنى ” ليلى العطار ” و معي كادر التصوير التلفزيوني . و أثناء ما كنتُ أعدُّ حلقة خاصة عنها ، وجدت ـ و أنا أبحث في إرشيفي ـ صورة ً لوحة ( تنبؤية ) غريبة لفتت انتباهي ، كانت الفنانة قد رسمتها عام 1977 و وضعتْ لها عنوان ( نهاية حياة ) ، و عندما راجعت شريط فيديو تصويرنا لمنزلها وجدتُ تطابقاً عجيباً بين تلك اللوحة و بين حال البيت الذي انهار عليها فكانت ( نهاية حياة ) ، و أذكر أن مدير التلفزيون ـ آنذاك ـ الصديق الفنان ” فيصل الياسري ” قد اندهش لهذا الإكتشاف و الربط ، و اللذين أعجب بهما المشاهدون و قد وصلتني منهم رسائلُ كثيرة . و بعد الفاجعة ، بأسبوع ، كنت في مكتب الراحلة ، لأسجل حلقة خاصة عنها هذه المرة .
كانت أجهزة التصوير جاهزة ، و المصور البارع ” شطب عيدان ” ــ المتناغم معي و الذي أفضله وحده في التصوير ــ كان خلف الكاميرا بانتظار إيماءة مني كي يبدأ عمله ، لكن التصوير تأخر لنحو ساعة كاملة . ذلك أنني كلما بدأت الكلام حضرتْ أمامي صورةُ الراحلة بجمالها الباذخ ، و صوتها ، و ضحكتها … فأجهش بالنحيب ، فيستغرق ذلك نحو عشر دقائق ، ثم يتطلب الأمر مني أن أغسل وجهي قبل اعادة التصوير . و هكذا كان الأمر يتكرر عدة مرات دون إرادة مني ، حتى اقترح عليّ ( شطب ) أن آخذ كفايتي من ذرف الدمع على صديقتي الحبيبة ، حبيبتي و حبيبة الجميع .
ثم بالكاد أكملت تسجيل الحلقة المخصصة عنها ، و التي ما أن شاهدها الناس على شاشة التلفزيون حتى أثارت دموع الكثيرين ، كما سمعت ذلك من الآخرين مباشرة أو عبر الهاتف أو ما قرأته عبر الرسائل التي وصلتني بخصوص الحلقة . . فلقد كتبتُ تلك الحلقة بحزن كبير و تحت تأثير ألم في الروح ، و قدمتها مغتسلاً بالدمع .
هذا الشريط ، مرّ كلُهُ في خيالي بتسلسل ، و أنا مستلقٍ في فراشي بعد الإنفجار الذي دمّر محل بيع المشروبات الكحولية ، و الذي أعقبه ( النعيقُ ) الكاذب لسيارات إطفاء الحرائق و سيارات الإسعاف و سيارات الشرطة ، و التي تأتي متأخرة ً .. كما في في كل مرة . هذا ( النعيق ) اعتدتُ عليه في بغداد ، منذ حللت في العراق خلال هذه الزيارة . ففي النهار ـ خاصة ـ لا أحد يفسحُ الطريق لسيارة الإسعاف أو إطفاء الحريق ، لأن لا أحد يستطيع أن يركن سيارته الى الجانب كي تمرق السيارة ( الناعقة ) ، و السبب هو زحمة الشوارع التي سببها الأساس هو نقاط التفتيش .. و هي نقاط ضارة و ليست نافعة .

اترك ردا

Developed and designed by Websites Builder Ph:0449 146 961