بقلم الاديب علي خلف الامارة
شكلت المراة هاجسا حيويا ودراميا في حياة السياب القصيرة نسبيا والمتوزعة بين صراعاته مع اليتم المبكر والغربة والمرض العضال والحب من طرف واحد … بحيث ان هذا الهاجس – المراة – يتجلى في كل مراحله الحياتية والشعرية فيبدو شاعرا مازوما بالمراة الحلم والمراة الوهم وحتى المراة الحقيقة .. فكانت المراة المنتظرة او المحبوبة الميؤوس منها شاخصة في مراحل حياته سواء في مرحلة الرومانسية او مرحلة الواقعية او مرحلة الواقعية الجديدة او مرحلته الاخيرة الذاتية ومواجهة الموت .. وقد كان جذر هذا الحضور المازوم للمراة هو انطلاقته الاولى يتيم الام منذ الرابعة من عمره وزواج ابيه المبكر ..
ابي منه قد جردتني النساء
وامي طواها الردى المعجل
ومن ثم الصدمة المكررة بوفاة جدته ايضا التي ربته بعد امه وهو في عمر الثامنة عشر تقريبا .. فخرج السياب الى ميدان الحياة والشعر وهو يحمل علامة نفسية فارقة الا وهي احتياجه الكثيف للمراة .. المراة التعويض والمراة القدر والمراة القصيدة والمراة التي تاتي ولا تاتي لان هناك دائما حاجزا او فاصلا ما عمريا او جماليا – عدم الوسامة – او اجتماعيا – الفقر والغنى – او دينيا او عجزيا بسبب المرض الكامن في الجسد او وهميا بانتظار المراة الحلم ولكن كل هذه النساء نساء الوهم والخيال او نساء الحقيقة الصادمة كان لهن حاضنة نفسية في ذات الشاعر يستدعيها الشعر .. فالشعر لا ياتي مع امراة متاحة بل ياتي مع امراة مستحيلة وكل نساء السياب مستحيلات حتى زوجته !!
ومن بؤرة هذا المستحيل نهض السياب شاعرا كبيرا ومجددا فمن نساء جيكور البريئات شفيقة وهيله الراعية ولبيبة مرورا بنساء دار المعلمين العالي وبغايا الميدان في بغداد الى نساء اخريات وصولا الى المراة الزوجة .. وكان بينه وبينهن جميعا اشبه بحاجز القبر بينه وبين امه التي تاتي ولا تاتي كما يذكر ذلك في انشودة المطر او في قصيدة
( الباب تقرعه الرياح ) التي كتبها في لندن 13 – 3 – 1963 ايام مواجهته مع الموت تشي بهذا الهاجس هاجس الام المستحيلة التي تلوح للشاعر عبر القبر :
( هي روح امي هزها الحب العميق
حب الامومة فهي تبكي
اه يا ولدي البعيد عن الديار
ويلاه كيف تعود وحدك لا دليل
ولا رفيق ؟
اماه .. ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار )
وهكذا فان كل نساء السياب يقبعن خلف سور .. حا جز نفسي وهذا السور هو المرتع الشعري الخصب حيث ياتي الشعر من بؤرة العذاب حين تكون المراة قريبة ولكنها لا تنال امراة زئبقية لا تمسكها الكف الشاعرة وقد احس السياب بهذا اللامنال منذ تجربته الاولى مع لبيبة مثلا عام 1944 :
(خيالك من اهلي الاقربين
ابر وان كان لا يعقل )
او في قصيدته اليها ( اراها غدا ) وقد ارسلها لها مع مقدمة ( على الرغم من انك تكبريني بسبع من السنوات فقد تجرات وارسلت هذه الزفرة مع من يقراها عليك ولكن وا اسفاه لا اعلم اادى الرسالة ام خانها .. ) وقال في القصيدة :
( اراها غدا هل اراها غدا
وانسى النوى ام يحول الردى
ثم يذكر الحاجز – السور :
مشى العمر ما بيننا فاصلا
فمن لي بان اسبق الموعدا )
فهو اذن يؤكد بان الفشل هو سيد العلاقة العاطفية ولكن الحب الممهور بالفشل هو شرارة القصيدة .. ويقول لها في قصيدة اخرى :
وهل انسى ( لباب ) اذا تناءت
وكل الناس يذكرني ( لبابا )
ثم يصف نفسه مبكرا من خلال لبيبة :
ومجنون يهيم بالف ليلى
فلا وصل ينال و لا اقترابا
ولعل الوقوف عند قصيدة ( احبيني ) تاملا وتحليلا يعني الوقوف عند التاريخ العاطفي لبدر شاكر السياب انسانا وشاعرا . فهذه القصيدة تتميز بالدعوة الصريحة في طلب الحب الواضح من عنوان القصيدة او اللازمة المتكررة في متنها ، كما تتميز بالاعتراف بالفشل ومعاناة الشاعر من موضوعة الحب من طرف واحد:
( فكل من احببت قبلك ما احبوني )
كما ان هذه القصيدة استذكار يشبه التوثيق والارشفة في رفوف الذاكرة عن نساء هن الى الوهم اقرب منهن الى الحقيقة .
وبما ان تاريخ كتابة هذه القصيدة 1963 يشير الى العام قبل الاخير من حياة الشاعر وهو على فراش المرض ، ولعل المخاطبة في القصيدة هي الممرضة التي كانت تعتني به في تلك الايام ، اذن فهي لحظات اعتراف في حضرة المراة او الشعر والتاريخ ، وبيان كشف للارهاصات والاحباط على صعيد الذات المثقلة بالعشق حد الوهم او على صعيد المحيط الذي كرس حالة الاغتراب والاحساس باللا جدوى واللا امل ،
او حالة اللا حب التي كانت تؤازر المرض على دفع الشاعر باتجاه النهاية .
اذن فما الذي يتبقى سوى الاعتراف على السرير الاخير حيث ينحاز الشاعر الى الشعر اكثر مما ينحاز الى نفسه كانسان يخشى البوح بفشله بسبب المرض او الشكل غير الوسيم او الفقر او العجز . .
من هنا جاء التعداد الشعري لنساء الوهم والخيال والحقيقة المرهقة :
( عشقت سبعا كن احيانا
اغوص في بحر من الاوهام والوجد
واجلسهن في شرف الخيال )
والان اذا تساءلنا من هؤلاء النساء ؟
ستجيبنا القصيدة بتدفقها الاعترافي فالاولى :
( اه فتلك باعتني بمافون لاجل المال )
أي بسبب الفقر ، والثانية :
( لان الحسن اغراها .. باني غير كفء )
أي بسبب عدم الوسامة او العجز ، اما الثالثة :
( وتلك عافتني الى قصر وسيارة )
بسبب الفقر ايضا
والغريب في امر حبه كما تقول لميعة عباس عمارة في مقالها – بدر والمراة – الغريب ( ان ملهمة الشاعر لم تسمع بحبه وشعره لها الا بعد سنوات طويلة من تخرجها .. ) وهذا دليل على ان المراة منحوتة من كلمات الوهم كمعشوقة وان كانت شاخصة امامه امراة .. وتقول لميعة كنت الومه على قسوته .. وماذا يريد الشاعر من المراة التي يحبها غير الالهام ؟ وهي تشير الى قصيدة ( اقداح واحلام ) عن ( حبيبة ) كانت معه في الصف الاول وقد التحقت بالسفرة الطلابية التي كان فيها بدر .. حيث كان الفاصل بينهما كما يراه بدر غناها النسبي وفقره النسبي ..
والرابعة :
( وتلك وزوجها عبدا مظاهر ليلها سحر )
اما الخامسة فهي الشاعرة لميعة عباس عمارة كما يذكر مؤرخو تجربة السياب :
( وتلك ؟
وتلك شاعرتي التي كانت لي الدنيا وما فيها )
وهي المراة الشاعرة التي جمعها به الشعر .. هذا الوهج الانساني العميق والاقرب الى مساحة الوهم والخيال من غيره .
وقد ذكر لميعة في اكثر من قصيدة ويقول سيمون جارجي في ( الرجل والشاعر )ان لميعة كانت ملهمة بدر في اعظم فترة حب في حياته ….) ولكنها خيبت امله ايضا حين اكتشف انها حلم عابر وانها ضمن فضاء المستحيل فكتب عام 1948 :
لست انت التي بها تحلم الروح
ولست التي اغني هواها
اما السادسة فهي :
( واخرهن .. اه .. زوجتي قدري اكان الداء
ليقعدني كاني ميت سكران لولاها ؟ )
وهي زوجته اقبال الحقيقة الانثوية الواقعية الوحيدة الشاخصة في حياة السياب التي ساعدته على الوقوف بوجه المرض عكس نساء الوهم والخيال .
والان نتساءل كيف اصبحت زوجته اقبال مستحيلا كباقي النساء ؟؟ سيجيب على ذلك شعر السياب وسيرته فقد ارتبط بدر باقبال في 19 – 6 – 1956 وفضلا عن الرسالة التي بعث بها السياب الى صديقه الشاعر مؤيد العبد الواحد التي فيها ما يفشي سر ابتعاد الزوجة عن عالم الشاعر ( يا مؤيد ، نصيحتي اذا ما اردت الاقدام على الزواج ان تكون رفيقة مستقبلك ذات ميل الى الادب على الاقل ، لكي تفهم مشاعرك وتشاركك احساسك ) ثم يصرح عن اقبال بقوله ( انها لم تفهمني ولم تحاول ان تشاركني احساساتي ومشاعري انها تعيش غير العالم الذي اعيش فيه .. لانها تجهل ما هو الانسان البائس الذي يمزق نفسه من اجل الغاية التي يطمح الى تحقيقها الانسان الذي يسمونه الشاعر .. ) من كتاب بدر شاكر السياب – حياته وشعر ه عيسى بلاطة ..
فضلا عن هذه العلاقة الزوجية التي تشي بها الرسالة زواج السياب المتاخر نسبة الى عمره القصير فقد تزوج بدر بعد ان امتلأ قلبه بالنساء المستحيلات واكلت قلبه الذكرى واجترار قصص الحب الوهمية ثم بعد ان استقرت علاقته بالمراة على الوهم والخيال ومن ثم الى المرض حتى دخول اعوام الموت منذ عام 1962 بعد ان شخص مرضه العضال .. أي ان اقبال جاءت بعد فوات اوان القلب والصحة والحقيقة والضعف ومن ثم العجز الجنسي لتدخل فضاء المستحيل السيابي مع الاخريات .. الضعف الجنسي الذي يقابله طلب من جسد جديد شريف يريد حقه .. فيقول بدر في قصيدة ( القن والمجرة ) هذه القصيدة التي قالها بدر في سورة غضب وكان المفروض – كما يقول ناجي علوش – ان تنشر في شناشيل ابنة الجلبي ولكن بدرا طلب عدم نشرها حينذاك ووضع مكانها قصيدة ( ليلة الوداع ) التي اهداها الى زوجته الوفية ثم نشرت لاحقا في ديوانه حفاظا على تراث السياب .. يقول بدر في القصيدة :
( ولولا زوجتي ومزاجها الفوار لم تنهد اعصابي
ولم ترتد مثل الخيط رجلي دونما قوة
ولم يرتج ظهري فهو يسحبني الى هوة
و لا فارقت احبابي .. ) ثم يقول في اخر الفورة القصيدة :
( ولكني احن .. فهل اعود غدا الى اهلي ؟
نعم ساعود ،
ارجع ، لا اليها بل الى غيلان )
ما اقسى هذه الكلام على زوجة شاعر ان هذه القساوة تدخل اقبال في فضاء المستحيل .. بل يذهب الى اكثر من هذه القسوة في قصيدة ( ام كلثوم والذكرى ) في عام 9 – 3 – 1963 بقوله :
( اغازل تحتها عذراء اواها
على ايامي الخضراء بعثرها واوراها
زواج ، ليت لحن العرس كان غناء حفار
…….. قساة كل من لاقيت : لا زوج ولا ولد
ولا خل ولا اب او اخ فيزيل من همي .. )
ولكنه في قصائد كثيرة يجعل من اقبال ملاذا روحيا وشعريا ففي قصيدة ( ليلة انتظار ) يقول :
( غدا تاتين يا اقبال ، يا بعثي من العدم
ويا موتي ولا موت
ويا مرسى سفينتي التي عادت و لا لوح على لوح
ويا قلبي الذي ان مت اتركه على الدنيا ليبكيني )
. اما الاخيرة .. كما نقرا في قصيدة ( احبيني ) السابعة فهي :
( وانت ؟
لعله الاشفاق !! )
وهي الممرضة التي خصها الخطاب الشعري من عنوان القصيدة حتى اخرها وهي الشاهد على لحظات الاعتراف والتشبث الاخير بالانوثة والحياة ..
الممرضة ليلى التي لازمته ايام مرضه في بيروت فقد منحته خصلات من شعرها الاشقر وبعض رسائل حب .. ولكن اقبال رمت الخصل الشقراء والرسائل من الشباك في البحر .. يقول بدر عنها في قصيدة ( رحل النهار ) في 27 – 6 – 1962 :
(خصلات شعرك لم يصنها سندباد في البحار
شربت اجاج الماء حتى شاب اشقرها وغار
ورسائل الحب الكثار
مبتلة بالماء منغمس بها الق الوعود .. )
كان بدر يريد من المراة اكثر مما عند المراة و لاسيما المراة الشرقية المضطهدة في قفص التخلف والعبودية انذاك على الاقل .. يريد منها ان تنسيه حياة البؤس والحرمان وطيف امه الذي ظل يراوده حتى اخر ايامه ويريد منها ان تنسيه جيكور الفردوس المفقود ويريد منها ان تكون كل النساء .. وكل الاماكن وكل الازمنة وهذا وجه من قساوته مع نفسه من خلال المراة ففي قصيدته الى الانسة لوك نوران ( ليلة في باريس ) وهي كاتبة وصحفية بلجيكية ترجمت بعض قصائد السياب الى الفرنسية وكانت ترسل له الزهور يوميا ويصف بدر تعاطفها ونرى فيها تعويضا لهذه الاشياء المفقودة :
( وتركت لي شفقا من الزهرات جمعها اناء
…….. وذهبت فانسحب الضياء
لو صح وعدك يا صديقه
لو صح وعدك .. اه لانبعثت وفيقه
من قبرها ، ولعاد عمري في السنين
الى الوراء
تاتين انت الى العراق ؟ )
وهذا فاصل ديني وجغرافي ولكنها امراة ضمن شريط الحلم المستحيل ..
اما عن وفيقة فيقول جبرا ابراهيم جبرا في مقاله – من شباك وفيقة الى المعبد الغريق -( اذكر بوضوح ان بدرا حدثني في اواخر عام 1960 او اوائل عام 1961 انه فجاة جعل يتذكر فتاة احبها في صباه تدعى وفيقة ، وانها ماتت صبية ، وكان شباكها الازرق يطل على الطريق المحاذي لبيته واذا به يطلعني بعد ذلك على قصيدة شباك وفيقة بشقيها الاول والثاني )
يقول بدر في جزئها الاول :
( وفيقة تنظر في اسف
من قاع القبر وتنتظر
سيمر فيهمسه النهر )
على ان وفيقة حبيبة تتكرر في كل زمان ومكان وشباكها الذي يمثل اطلالتها يتكرر ايضا فهو يجتر النساء بذاكرة الحلم :
( شباك مثلك في لبنان
شباك مثلك في الهند
وفتاة تحلم باليابان
كوفيقة تحلم باللحد
بالبرق الاخضر واللحد )
ويطلب انبعاثها كما يطلب انبعاث امه وكل النساء اللواتي احبهن في حياته :
( اطلي فشباكك الازرق
سماء تجوع ،
تبينته من خلال الدموع )
ثم يتسلل في القصيدة الى المستحيل فهي امراة مستحيلة كما قلنا :
( ولو كان ما بيننا محض باب
لالقيت نفسي اليك
وحدقت في ناظريك
هو الموت والعالم الاسفل
هو المستحيل الذي يذهل .. )
وفي اخر القصيدة يستسلم الى حقيقة الموت :
( وهيهات ان ترجعي من سفار
وهل ميت من سفار يعود )
وفي علاقته مع بغايا الميدان احرق السياب مراحل الوصول الى جسد المراة وهذه ايضا علاقة فشل لان هذه المراة ما هي الا نزوة عابرة لا تستطيع الارتقاء الى فضاء الحلم فهي حلم شهواني عابر وقد عبر السياب عن علاقته الجدلية المازومة بين المراة الشهوة والمراة الحلم في قصيدة شاعر الروح وقصيدة شاعر الشهوة حيث يعبر بجراة على لسان شاعر الشهوة لكي يوصل رسالته الشهوانية مع المراة المتاحة ولكن تحت ظل نزوة :
اهوى مفاتن جسمك المستسلم
وهوى لذائذه مزجن بماثم
جسد علي اراه بات محرما
وعلى حقير الدود غير محرم
لاطوحن بكل عرف سائد
ولاعبثن بكل آي محكم
ولاهتكن على الفضيلة سترها
ولاصغين بما يقول به دمي
ولكنه يقول في قصيدة – شاعر الروح – :
ااحب فاسقة تواصل فاسقا
هيهات لست – وان رمتني – عاشقا
ااحب من شرب الخنا من جسمها
كاسا تنوله الشراب الرائقا
وهذا هو مكمن الصراع النفسي الذي كان يعيشه بدر بين شاعرين يسكنانه شاعر الروح وشاعر الشهوة هذا الصراع الذي انعكس على مرآة المراة فهي عصية غير متاحة حين يقترب منها روحيا وتساميا وهي متاحة فقط عندما تكون ضمن بؤرة الشهوة والانحطاط الاخلاقي والاجتماعي أي ان حلم السياب الجسدي مع المراة لم يكن يتحقق الا من خلال انحطاط الجسد ولا سيما امام شاعر ذي خلفية اجتماعية محافظة .. فهو فاشل في حالتيه شاعر روح وشاعر شهوة .. !
يتبع ..