نشرت جريدة الصباح العراقية مقالاً مطولاً للدكتور علي علاوي عن شخصية أحمد الجلبي ، وبعد الجلبي من اشهر الشخصيات العراقية السياسية التي ساهمت في اسقاط النظام الدكتاتوري عام 2003 ، وشغل مناصب كثيرة حتى وفاته عام 2015 . ونحن في جريدة ” وطن برس ” نعيد نشر المقال لاهميته بعد استحصال موافقة النشر من رئيس تحرير جريدة الصباح ، فشكرا للصديق الكاتب احمدعبد الحسين ولأسرة الجريدة المحترمين .
د. علي علاوي*
في هذه المناسبة، عندما نحتفل بافتتاح قاعة أحمد الجلبي في المكتبة الوطنية ببغداد، أود الحديث عن أحمد إنساناً كان له تأثير كبير في حياتي. ولإلقاء نظرة على صفاته التي جعلت منه شخصية ساحرة وجذابة. لن أستعمل التكريم المتعارف عليه عند الحديث عنه. كان حامل شهادة دكتوراه حقيقياً، وأستاذاً جامعياً، ونائب رئيس الوزراء، وزعيماً سياسياً، وعضو مجلس النواب …، لكن طوال حياتي كنت أعرفه باسم أحمد، وبإذن منكم سأدعوه أحمد في هذه الكلمة.
أكثر السياسيين إثارة للجدل
لمْ يكن أحدَ أخوالي حسبُ، فقد نشأنا معاً وتلاقت مساراتنا خلال السنوات العديدة التي ارتبطتُ بها معه. وهنا لن أتحدث عن سياسته أو دوره في إسقاط النظام الرهيب الذي كاد يقضي على فكرة العراق، فقد نظر آخرون في ذلك، غير أنه كان موضوعاً لكتابيْن عن سيرته باللغة الإنجليزية، وكان من أكثر السياسيين إثارة للجدل في تاريخ العراق الحديث.
يعتقد كثير من الناس أنه البطل، ورأى آخرون أنه الشخص الذي دمّر وحده الأسسَ التي بُنيت عليها الدولة العراقية الحديثة. وهنا سيحكم التاريخ على دوره. أنا شخصياً أعتقد أنه جسّد، أكثر من أيّ شخص آخر، آمالَ أولئك الذين سعوا إلى بناء رؤية جديدة للبلاد وتطلعاتهم، بناءً على الاعتراف الواجب بالتجارب التاريخية لجميع شعوبها، ومن خلال الاعتراف بتنوعها، إنه نظام جديد يجمع شعبه الممزق. وأعتقد أن رؤيته قد خانها كثيرٌ من الناس الذين استفادوا من الانفتاحات التي خلقها غزو العراق واحتلاله. أمّا مسألة كونه مسؤولاً بشكل مباشر عن جلب الأميركيين إلى العراق، فأجدها أمراً مشكوكاً فيه. لكن تأثيره كان عاملَ إسهامٍ مؤكداً.
وكما قلتُ من قبل، نشأنا معاً، الخال وابن الأخت، ولم يكن هناك فرق في العمر بيننا سوى ثلاث سنوات. كان منزل جدّي على مسافة شارعين من منزلنا في منطقة الأعظمية. وفي كثير من الأحيان، حين نشارك في بعض مباريات كرة السلة لفريق من شخصين، أكون أنا معه ضدّ الفريق الآخر. لم أحضر المدرستين الابتدائية والثانوية اللتين التحق بهما، مدام عادل واليسوعيون الذين أداروا كلية بغداد. لكن أخي غازي حضر معه في المدرستين. لقد أذهلتنا قصص براعة أحمد الأكاديمية، عندما كان يتربّع، بلا مجهود وباستمرار، أولاً على الصفّ الدراسيّ. وببراعته الرياضية أيضاً، كان بطلاً في كلٍّ من كلية بغداد وإنجلترا لاحقاً.
ثورة 1958
بعد ثورة العام 1958، وهو حدثٌ محوريٌّ في رأيي أثّر في شخصيته وتطوره، انتقل أحمد إلى مدرسة أهلية في إنجلترا، سيفورد. انتهى بي الأمر في المدرسة الإعدادية لسيفورد وعادت إلينا قصص عن الميداليات التي حصل عليها في الجَرْي، وكذلك عن الدرجات التي حصل عليها في امتحانات القبول في الجامعات البريطانية والأميركية. لكن كان مقدّراً له أن يذهب إلى الولايات المتحدة. فقضى سنوات دراسته الجامعية في بوسطن في معهد ماستشوستس للتكنولوجيا MIT الشهير. انضممتُ إليه أيضاً في MIT عندما كان في عامه الأخير. خلال العام الحافل بالأحداث 1964 – 1965 – عرفتُهُ عن كثب. كنّا نعيش في الأقسام الداخلية للطلبة، وقد اختبرتُ صفاته القيادية. لقد انجذبتْ إليه مجموعة كبيرة من الطلبة العرب والإيرانيين واليونانيين وحتى الأميركيين في الجامعة. لقد كان قائداً بالفطرة.
قبل أن ألتحق بمعهد MIT، ويجب أن أقول إنه كان وراء التحاقي معه بالمعهد، كنت متواجداً دائماً في شركته خلال فصول الصيف العديدة التي أمضيناها معاً في بيروت. وكنت دائماً من قرّاء الكتب، لكنني كنت مفتوناً بالكتب التي أحضرها معه من الولايات المتحدة. بعض الكتب لم أفهم شيئاً منها، مثل كتبه في الهندسة الريمانية والجبر، رموز غريبة ومعادلات غير قابلة للتفسير. اعتاد أحمد أن يحمل أحد كتب الرياضيات الخاصة به أينما ذهبنا، سواء كنّا في مطعم أو في تجمع أسري أو حتى في السينما. وكنتُ أطّلع على هذه الكتب في أثناء قيامه بالعديد من الوظائف الأخرى. كان متعدد المهام Multitasker قبل اختراع الكلمة.
كانت ثمة كتب أخرى يمكنني استيعابها على نحوٍ متردد. وكان عمري 15 أو 16 عاماً فقط في ذلك الوقت، لكن فيما بعد عرفتُ أنها كتب في كلاسيكيات النظرية الاجتماعية والسياسية الحديثة، كتب مثل Middletown Robert and Helen Lynd, Passing of Traditional Society Daniel Lerner و The Lonely Crowd David Riesman.
في معهد ماستشوستس MIT، في أثناء تواجدنا معاً فيه، بدأتُ أفهم الصفات الفذّة لأحمد. كان بإمكانه أن يدرس بشكل مكثف أكثر الموضوعات صعوبة في أكثر الأماكن غرابة، لم يبدُ أبداً أنه مهتمّ بدروسه، لكنه لم يتركْها أبداً. كان لديه العديد من الأصدقاء، لكنه أبقى على نوع من الابتعاد عنهم. كنتُ أعدّه أفضل أصدقائي قبل أن أعرف ما إذا كان يعدّني أفضلَ أصدقائه. في الواقع، التحق أحمد بجامعة شيكاغو في العام 1965 ليحصل على درجة الدكتوراه في الرياضيات. ولطالما تساءلتُ لماذا اختار دراسة الرياضيات، وأعتقد أنني أعرف الآن. كان لديه استعداد كبير للموضوع، ولكن لماذا يختار شيئاً يقع خارج مألوف العراقيين، وحيث تكون فرص العمل قليلة. نحن نتحدث الآن عن حقبة الستينيات، وفي هذه الحقبة، عادةً ما يختار الطلبة العراقيون المجتهدون أن يكونوا أطباء أو مهندسين. وأعتقد أن نقاء الرياضيات، والدفع بالرموز للوصول إلى بعض النتائج غير المتوقعة تماماً، والصرامة التحليلية المطلوبة، تتلاءم مع تكوين شخصيته. ولكن السبب الآخر هو التوجيه والدعم اللذان حظي بهما من أحد أعظم علماء الرياضيات في القرن العشرين، وهو وارين أمبروز الذي كان حينها أستاذاً في معهد ماستشوستس MIT،. كان أمبروز مؤسس الهندسة الحديثة، وهو الذي قام بتوجيه تلميذه البارع، ورأى فيه إشارات عالم رياضيات عظيم. كان أمبروز هو الذي وجّه أحمد نحو جامعة شيكاغو، وهي المركز العالمي الآخر للهندسة الحديثة.
العلاقة مع محسن مهدي
عقد أحمد أيضاً علاقة صداقة مع الراحل الكبير محسن مهدي. كان محسن مهدي الكربلائي متخصّصاً ضليعاً في فكر ابن خلدون والحكمة الإشراقية المتعالية، ثم عمل أستاذاً في جامعة هارفارد، وفي مركز دراسات الشرق الأوسط. وتقع جامعة هارفارد على مرمى حجر من معهد ماستشوستس MIT، وكان أحمد يختلف إلى المركز من وقت لآخر. كنت أصغرَ من أن أفهم ما كان يقرأه، لكنني أتذكر رؤية أعمال محسن مهدي عن ابن خلدون والفارابي في صالة نومه. في تلك الأيام، لم أستطع أن أفهم هذه الأشياء. لقد كانت بعيداً عن اهتمامي وفهمي، لكنها عالقة في ذهني. أما الكتاب الآخر الذي قرأه أحمد فهو كتاب ظاهراتية العقل Phenomenology of Mind لهيغل، وهو كتاب ضخم. كان أحمد يحمل الكتاب معه في الأماكن التي يصعب تفسير وجود الكتاب معه فيها، في مطعم صيني أو في حفلة طلابية على سبيل المثال. لا بد من أنه كان يزن نحو كيلوغرامين، فبينما كنا نأكل الدجاج الصينيّ المقلي، كان أحمد يقرأ هيغل!
كان أحمد متابعاً متابعةً حثيثةً للتطورات في العراق والشرق الأوسط في تلك الأيام. وقد اشترك في ملخص تبثُّهُ هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وأقام علاقات صداقة مع أخصائيين وأكاديميين مقيمين في بوسطن ممن لديهم اهتمام بالشرق الأوسط، مثل جيفري جودسيل من صحيفة كريستيان ساينس مونيتور. نحن نتحدث عن وقت لم يكن فيه أيّ شخص في أميركا يعرف أي شيء عن الشرق الأوسط ، ناهيك عن العراق.
رابط المقال في صحيفة الصباح https://alsabaah.iq/59801/