البصرة / كتب محمد خضير:
يقدّم معرض الفنانة جنان محمد (جمعية الفنانين النتشكيليين بالبصرة_ 11 كانون الأول 2021) دليلين على مدى “الجرأة” في الفن التشكيلي: جرأة إعادة الاعتبار الى فنّ الخزف والتزجيج، وجرأة حصر هذا الفن بيد المرأة الفنانة_ التي استأنفت ما بدأته فنانات مبدعات مثل العراقية نهى الراضي.
ولعل الجرأة الكبيرة، التي تمخّض عنها المعرض، هي في أن توسّع الفنانة جنان محمد حقلَها الجندري، وتصعّد معرفتها الأيقونية التي تشمل أوضاع الجسد الأنثوي وتعبيراته الاستعراضية معاً، لأجل غاياتٍ بعيدة عن الممارسة الحسيّة المباشرة. وعلى هذا الجانب من الممارسة الجندرية، فقد برهنت الفنانة على قدرة المرأة في فهم تقانات الفنّ الخزفي التراثي، وزادت عليها جرأة الموقف ونظرية المعرفة الفكرية_ الانحياز لعائلة النساء المتوحدات، العصيّات على الأخذ والتداول الاستهلاكي.
قبل هذا، لا بد من ملاحظة انتقال الفنانة جنان محمد ، في هذا العرض، من ممارسة البعد التصويري السطحي إلى التجسيم الفراغي بأبعاده الملموسة. وبهذا التحوّل منحت متلقّيها جوانب جديدة من المعرفة الفنية: الحرفة والابتكار والسرد التشكيلي ذا الموضوع الواحد. وما ساعدَها في هذا الانتقال طواعية الجسد الأنثوي واستطاعته على الاستقلال والسُّفور والحوار على مستوى الإيماء والتموضّع الفيزيقي في مكان منتقى بإحساس اجتماعي رفيع الطبقة؛ فكأننا نشاركها حكايةً من حكايات جناحٍ للحريم، من زاوية قريبة جداً، ومن خلال توزيع مبرمج للوضعيات والأزياء وتسريحات الشعر، ضمن حبكة سرديّة مجسَّمة. لقد توقف الزمن في هذا الجزء المعماري التراثي مدةً قصيرة تكفي لاعطاء لمحة حميمية لتجسدّات سردية متخيَّلة في ذاكرة امرأة حرّة من قيود التنميط العائلي والقرابة الجندرية. فالمرأة من هذه العائلة تكتفي بالعلاقة التي يتيحها ضمير “هنّ” من دون إحالات او تعريفات للهوية الطبقية او العائلية_ بينما يسرح خيالُ المشاهِد_ السِّلبي_ في منح أسماء أنثوية أو صفات جمالية من لدُنه. وهذا ما يجعل الحوار ممكناً بين ذواتٍ متضادّة_ متخايِلة، نُحسِّه يحلّق كرفيف فراشاتٍ غير مرئية في فضاء العرض، ويدفع بالمشاهد الساكنة للشروع بالتحرك الافتراضي على مسرح الحكاية المنظورة.
إنّ المفاجأة التشكيلية التي تمنحها المعروضات لمشاهد _إيجابي_ ثانٍ، تتمثّل ليس في انصبابها على الموضوع الجندري، إنّما في التوزيع الأنموذجي للعائلة الخزفية، فردياً وثنائياً وثلاثياً، ما يحدّد مفهوماً جديداً لطريقة العرض، وتعريفاً بطبوغرافية المعروضات، إذ تسمية “المعرض” تقصر عن تمثيلها، بينما تسميات مثل “المجلس” أو “الجناح” أو “الصالون” تتقصّدها في التمثيل الاجتماعي والخصوصية التشكيلية بمنظور أوضح وأقرب إلى البرنامج المعروض. ليس هذا فقط، فالجرأة في التمثيل العائلي_ الحكائي_ الجندري يوغل أكثر في الخصائص اللغوية للانتماء والنسبة النسوية، عندما يُشار إلى المجموعة الموزَّعة على أبعاد وأوضاع مختلفة بضمير الغائب الجمعي “هنّ”. ولو نسَبَت الفنانة ضميرَها الى جماعة ال “نحن” لانحرفَ القصد عن الإشارة الجندرية نحو الانتماء المباشر لجنس معين، يستحقّ الانصاف والنصرة_ وهذا ما لا تقصده الفنانة الواعية لبرنامجها. فما تعرضه الفنانة في “صالونها” حالة نسوية غاية في الاسترخاء والاسترواح والتلذّذ ، قريبة من تراث الشرق الجنساني_ المنمنماتي، الذي تمتلئ به ذاكرتها الحكائية ومعرفتها الفنية الثرّة.
وبقدر ما توحي الخزفيّات الجسدية من تلذّذ حسيّ، إلا أنّ الطلاء اللوني للأجساد يساعد كثيراً في عملية الأيقنة التي تصرف النظر عن مادة الجسد الى التمتع بالخيال غير الحسيّ المنعكس عن الكتلة المُصمَتة؛ فما يرتدّ من السطح البرّاق، شعاعٌ أشبه بالنشوة الصوفية، التي يتّحد فيها الباطنُ والظاهر في لمحة مبرّأة من النزوات التشبيهية. ولعلنا هنا نؤشر ،كذلك، إلى افتراق نماذج جنان محمد عن حالات الانغماس الجندري المباشر في أعمال فنانات عراقيّات شهيرات كليلى العطار وهناء مال الله وعفيفة لعيبي. فما نراه من أوضاع تجسيمية للمرأة في هذا “الصالون”جمالٌ مُغدَق بأريحية نسويّة، وتصميمٌ محسوب بمفهومية موضعية لا تنفصل عن غاياتها الوظيفية والمكانية. إنّها المفاجأة المبتكرة في التشخيص والتلوين والدلالة الاجتماعية_ الأثيرة_ النابعة من أصابع مرهفة، تتذوّق من الخامة والبيئة أمتع ما في الممارسة التشكيلية من تخزيف وتزجيج وإيماء حكائي جذاب.
(الصور من التقاط الفنان حامد سعيد والمصور حيدر الناصر)