قرعت الحرب طبولها ، واُستدعيَ شباب القرية للالتحاق بالخدمة العسكرية . ذهبَ مع الملتحقين من نظرائه . في يوم مغادرته عثرت والدته العجوز على حمامته ميتة في باحة الدار . لم تكن الحمامة تشكو مرضاً او تعاني شيئاً ، الامر الذي جعل الأم تستغرب موتها ، وتبكي أيضاً ، لأنّ ابنها ربى الحمامة مذ كانت صغيرة ، وكان متعلقا بها ، حتى أنه أوصى والدته بأن تعتني بها في غيابه . غاب طويلاً ، وكانت تحسب الأيام مؤملة النفس أنه غداً سيعود . وفي كل غد يأتي تردد جوارحها ترانيم الامل بعودته في الغد اللاحق .. شعر أهل القرية بفراغ كبير حين غاب أبناؤهم ، ومع غيابهم اختفت مظاهر الفرح والصخب ، بل حتى النهر الوحيد الذي كان شباب القرية وأولادها يسبحون ويلعبون فيه ، قد جف ، فأجدبت الأرض ، وغابت الأفراح الخضراء عن حقول القرية .
اعتادت الأم الذهاب الى النهر العاري كل يوم ، لتبكي وتعانق بعينين حنونتين خيال ابنها وهو يسبح في النهر حيناً ، وتنظر بعينيّ الترقب الى أفق الطريق الذي غادر منه حيناً آخر .
مارست طقوس المعانقة والترقب طويلاً من غير أن تشعر بالملل او التعب او ينفد صبرها او يجف دمعها .
في آخر مرة جلست عند ضفة النهر الظامئ ، بكت كثيراً ، حتى شهقت شهقتها الأخيرة .
شاهد أهل القرية تدفقَ بعض ماء ٍ الى زرعهم اليابس ، ما أثار استغرابهم وتساؤلاتهم ، حيث أن السماء لم تمطر . فهرعوا الى جهة النهر .
هناك ، كانت دموع الأم قد ملأت وعاء النهر تماما حتى فاض ، فأغرى الصغار للعب ، ملقين أجسادهم فيه ، بينما كانت عيناها ساكنتين ، مصوبتين على أفق الطريق الأجدب .