فجر جودة الباحث المتخصص بإحراش المرارة يكتب عن هذا العالم الأحمق المزدحم بالمخاطر
عادل سعد
بين قناعته المعرفية ان ( فرخ البط عوام) بايلوجياً مع ماتضيفه العهدة الاجتماعية واصابع الاخرين ، ظل فجر جودة يطارد الحقيقة منذ ان غادر بلدته المظلومة الصويرة ليؤسس له جاهاً مزدحماً بالاسئلة والاكتشافات حاسماً منهجه ان اللصوص مهما امتلكوا من خبرات التحايل والبصبصة وارتداء مسوع الورع فانهم لايستطيعون ثقب الاحذية ، وان الاقدام النظيفة تحمل حصانتها معها مهما كان الطريق طويلا ، معلقاً المزيد من الامال على المثابرة دون ان يسقط من اعتقاده ان( العواصف لاتعرف القراءة) ، هكذا وقياساً على انه (لابد من صنعاء وان طال السفر) نجح فجر في الاستئمان على مشروعه الثقافي متحاشياً الهذار وفق قناعة صارمة يبدو انه استمدها من الاديب الفرنسي ستاندال(ان الصمت هو الطريقة الوحيدة التي تشرف الانسان في بعض الاحيان)
كان بامكانه ان يصنع له اسرة طويلة من المؤلفات بما يملك من جزالة ذهنية، واطلالات فلسفية برفايات سسيولجية لكنه فضّلَ الانتقاء في الاجتهادات ،لم يسهب الى حد الافراط محترماً حقوق المتلقي في الجرعة المعرفية الموظبة خشيةً من التخمة وتعسر الهضم .
بالصدفة وحدها اهدتني الصديقة الفاضلة الناشرة الاردنية آمنة سعيد كتابه (مقدمة في علم الاجتماع) ، وقد ذيّلَ العنوان بعنوان فرعي (نحو فهم افضل لطبيعية المجتمع البشري) .
الكتاب باثني عشر فصلاً، حرص فيها على تأشير مفهوم علم الاجتماع من منظور دراسي الى تحليل التغير الاجتماعي والحركات الاجتماعية ونظرية تعبئة الموارد وخلاصات شيد فيها جسوراً عن المتغير بالنسخة التنموية وشروط الحياة التي يتطلع اليها البشر
لقد نجح في الربط الجدلي مروراً بمفازات متشعبة ، لا سلطان للرؤية عليها الا بالتأمل المتوازن .
ذهب بنا فجر جودة في هذا الكتاب الى ان معرفة علم الاجتماع فريضة لا يمكن باي حال من الاحوال تجاهلها فهو يجعلنا على:-
– معرفة الفرق بين علم الاجتماع واصحاب نظرية البديهيات ، كما يمكنه التفريق بينه وبين التفسيرات الطبيعية للظواهر
– فهم المشكلات التي تواجه علم الاجتماع عند مقارنته مع العلوم الطبيعية
-لماذا يعد علم الاجتماع علما وليس ضربا من الرطانة
– ان يعترف بشكل موجز على التنشئة الاجتماعية ، والثقافة ,والهوية والادوار و صراع الادوار ، القيم والمعايير والضبط الاجتماعي ، هذه هي رسالة علم الاجتماع فأذا احكمنا السيطرة عليه سيكون بمقدورنا ان نجد اقداماً وارضاً جديدةً تدب عليها هذه الاقدام في رحلة التعرف على المجتمع المعاصر بكل اشكالياته وتناقضاته وتحدياته) ، وهنا يحذر المؤلف من مغبة الاستخفاف بالمخاطر المحدقة بالانسان فيقول :-
(المجتمع المعاصر وصل الى نقطة اللاعودة ، فمن الحداثة التي بدأت اصلا مع بداية الثورة الصناعية الاولى الى مابعد الحداثة او الثورة الصناعية الثانية وصولا الغى العولمة، هذه المراحل المتعاقبة كانت بمثابة حربة في خا6صرة الانسان والبيئة . والتطور المجنون في تسارعه واندفاعه وانتشاره، سحق ملايين الناس في طريقه ومازال يسحق الملايين وستستمر عجلة التطور في سحق كل انواع الحياة على الارض .
لقد دفع 150 ميلوناً من شعب الهنود الحمر ثمن التطور الذي قادته الرأسمالية التي انتصرت في النهاية على الاتحاد السوفيتي ، ووضعت افكار كارل ماركس في ثلاجة حتى اشعار اخر كما يقول فوكو ياما ) .
ويرى فجر جوده ان المشكلة ليست في التطور وانما في الانسان الذي يقود عجلة التطور ونزعته الى التفوق (فقد عمل اسنان حديديه ومخالب ومكائد من اجل الحصول على السلطة والثورة واذا كنا نعتقد اننا كنا نعيش في مجتمع واننا نستبطن معايير هذا المجتمع وقيمه وعادته شعوريا ، ونتماثل مع اعضاء المجتمع الاخرين فأننا ندخل ضمن دائرة البرمجة العقلية للثقافة ,بمعنى اننا نتصرف و نعمل ونشعر بطريقة غير قابلة للتجزئة يمكننا التكيف مع ثقافة اخرى بعملية تثاقف او استعارة او استحسان ، ولكننا لا نستطيع تحت اي ظروف ان نتخلى عن القواعد الثقافية التي شربناها مع اول قطرة لبن ومع اول كلمة استحسان او استهجان ، مع اول كلمة عيب او حرام ، ثم مع (دار دور) في القراءة الخلدونية.
الثقافة اذاً وعاء عملاق يستوعب طريقة حياة اعضاء كل مجتمع من المجتمعات ، ويمنحهم هوية لاتشبه باقي الهويات . وعلى الرغم من الغزو الثقافي الذي حملته الينا وسائل التواصل الحديثة سيبقى ابدا لأنه يورث عبر الاجيال بطريقة تشبه الموروثات الجينية)
ويعتقد الباحث فجر انه (في ظل هذا التطور المخيف الذي لا احد يدري الى اي اتجاه يتجه ، لم تعد جماعات الوجه لوجه لازمة ، حتى جماعة الثانوية التي تعودنا على كثير من ملامحها في القرن الماضي اصبحت بحكم اللاغية بعد ان تحول المجتمع البشري بكل اتساعه الى قرية كونية ، فدخلت الجماعات الكبيرة macro group الى الميدان وازاحت كل ما قبلها من الجماعات التقلدية المعروفة ، والدراسات الاجتماعية ما عادت تعطي اهتماما للجماعات الصغيرة وعلاقاتها الحميمة وتفاعلاتها المباشرة لان وجودها صار هلامياً ، ولم تعد تدرس الا من باب التذكير في انه كان فيما مضى هناك اسرة وكان اعضاؤها يتعاونون ويتفاعلون في كل لحظة
الان يعيشون في بيت واحد ولا احد يرى الاخر في الاسرة الا كل شهريين ، واذا اجتمعوا انشغل كلاً منهم بهاتفه النقال او حاسوبه ) .
ويذهب فجر الى تشخيص اخر فيقول (في عصر ما بعد الحداثة والعولمة اصبحت الاسرة التي تقوم على الزواج شبه مشلولة ، ذالك ان غالب الافراد ذكوراً واناثاً يقيمون علاقات معاشرة وينجبون اطفالاً خارج مؤسسة الزواج ، وحتى الذين يتزوجون فأنهم سرعان ما ينفصلون حتى بلغت نسة الطلاق في كل انحاء العالم وليس في المجتمع الغربي وحده اكثر من نصف عددة الزواجات ، المعاشرة المشرعنة اصبحت البديل الواقعي للاسرة النووية ويبدو انه عما قريب ستلحق الاسرة النووية بالاسرة الممتدة.)
ويجتهد المؤلف في موضوع الانحراف فيراه متعدد الابعاد وينطوي على تعقيدات تفسيرية شديدة التنوع قد تصل الى التعارض ، الا انه جميعاً نتفق على الاطار العام للانحراف الذي يعني الخروج على المعايير الاجتماعية السائدة ، وبالنسبة الى النظريات المبكرة التي يربطها بعض علماء الاجتماع بالحداثة ، اخذت اتجاهين مختلفين ، اتجاه يهتم بردود الفعل الاجتماعية التي تعطي مفهوم الانحراف معنىً معيارياً مستمداً القواعد الثقافية لمجتمع ، وتعزو الفعل المنحرف الى التنشئة الاجتماعية والاضطراب الاجتماعي الذي سماه دوركهيام الانومي او اللامعيارية ، او التفكك الاجتماعي الذي يعطي فرصة لبعض الافراد للتحرر من المعايير الصارمة او التمرد عليها ، والاتجاه الاخر تبنى منطلقات بيلوجية مفادها ان الانحراف والجريمة له علاقة بالتركيب الجيني للافراد ويدخل ضمن هذا المنظور الى غريزة العدوان.
وفي جانب اخر من رؤية الدكتور فجر يتساءل (هل اصبح التعليم التقليدي في خطر فعلا ام ان مثل هذه الموجة عابرة تزول حتما في المستقبل مثل كثير من الموجات المؤقته ؟ ووربما يكون للتربويين والفلاسفة واهل علم النفس رأي اخر .
المدرسة تؤدي جملة من الوظائف التي تعد الانسان للحياة الى جانب الاسرة وجماعة الاقران والجيرة والمجتمع المحلي ، ولكن التعليم داخل جدران المدرسة والجامعة اصبح في خطر ، والتهديد الذي يواجه ليس تهديداً وهمياً او غامضاً او مجهول المصدر) وبخلاصة مضافة هناك تحذير واضح من ضياع القيمة الانسانية التربوية الكفيلة بالمحافظة على العفوية الاخلاقية التي ترى في الحياة ليس سوى فرصة لشرف المثول امام الله ، ولنا في البرنامج االانتخابي للرئيس الامريكي الاسبق ريغان مايمثل هذه المحنة حين قال انه يريد اعادة الله الى المدارس الامريكية .
بيقيني ، ان هذا الكتاب وجبة معرفية غنية وسهلة الهضم، ولا اعتقد ان فجر جودة يستطيع ان يضيف اليها ، وان فعل خلاف ذلك فمن محتوى التفصيل الممل والانشغال بالمقبلات.
هناك مفكرون يدخلون المطبخ لأعداد وجبةٍ على نار عاجلةٍ ، ولا اقل حاميةً ، فجر جودة واحد منهم الى جانب اريك فروم ، لكن ما يشفع لفجر انه لم يعرف الترف البيئي ، وهو الى الان باحث متخصص بأحراش المرارة .
المصدر / جريدة الزمان يونيو 30, 2021