طالب عبد العزيز
أعترف بأنّني وبعد دخول القوات البريطانية البصرة، في آذار مارس 2003، أي قبل سقوط التمثال، بسلك الرافعة الاميركية في التاسع من نيسان، كتبت قصيدةَ تشفٍّ به، وببعضِ رموزه الثقافية، من الذين لعقوا ولسنوات طويلة حذاء الدكتاتور، وزيّنوا صورته على قبحها في الذات العراقية. وقد نشرتها (القصيدة) جريدةُ المنارة البصرية. لكنني، أعترف أيضاً بأنني، كنت قد استعجلت كتابتها ونشرها، مثلما أعترف كذلك، بأنني كنت واقعاً تحت سطوة الغضب والتشفّي، التي خلفتها في نفسي السلطة القمعية تلك، التي احتقرتني، وأذلتني كإنسان، وظلمتني كمخلوق من لحم ودم، وجعلتني خارج اهتماماتها في الوجود الحر والآمن. ولا أعني أنا لذاتي، إنما لذات العراقيين جميعاً.
اليوم وبعد سبعة عشر عاماً على نشر القصيدة تلك، يروقني أنْ أسأل: ما إذا كنت كتبتُ قصيدة فاشلة أم لا؟ والاجابة هنا بلا ونعم. (لا) لم تكن القصيدة فاشلة- وإنْ كنتُ لم أضمّها الى أيّ كتاب شعري، ولن أعدّها من نسيج تجربتي الشخصية- أبداً، فقد بدت الحياة لي يومذاك، قد سُوّيت كما كنت أرجو وأتطلع، وأنَّ أعوام القهر والدم والموت قد ولّت الى الأبد. و(نعم) كانت فاشلة، لأنَّ كلَّ ما تأملته، وتطلعت اليه ذهب ادراج الرياح، وتبدد الحلم بالتغيير الى الحلم بإيقاف العنف والطائفية والنفي والقتل، الى الفرصة بلحظة صادقة يتوقف فيها الجميع لتأمل ما نحن سائرون اليه، لقول كلمة فصل بين الوطن المستباح والوطن المأمول.
لهذا، أبيحُ لنفسي بأنْ تعتذر الى كلِّ الذين وردت أسماؤهم في القصيدة الفاشلة تلك، لا لأنهم كانوا وطنيين، أو على صواب في موقفهم من النظام الدكتاتوري، ولا لأنني أخطأت بحقهم، إنما، لأنَّنا جميعاً، فقدنا الوطن الذي تطلعنا اليه وأردناه، هم بسعادتهم الكاذبة في وطنهم الخرب، ذاك الذي ظلّوا يرسمون صورته جميلةً، باذخةً بعين سيدهم -على درايتهم بحقيقته- وأنا بوطني الخرب، الذي ظلَّ على خرابه الى اليوم، هم بخصم واحد وأخير، يتطلعون الى هزيمته، وانا بخصوم تاريخيين كثر، مازالوا ينشطرون طولياً وعرضياً. هم بزمنهم البعثي الذي انقطع في نيسان ابريل 2003، وانا بزمني الحرون والمتعطل منذ تموز 1968 الى زيف (ديمقراطية) العام 2021.
اليوم، وبعد سبعة عشر عاماً على حلمي ذاك، يؤسفني أنني عاجزٌ تماماً عن معاينة أوراق الأمل، وهي تتساقط واحدة إثر أخرى، في بلاد ما زالت بين سيفين.
هل أقول بأنَّ الشِّعر قادرٌ على استعادة ما فُقد وضاع؟، ليتني، استعيد لحظة سقطت في وحل التذكر والنسيان، أسوّي بها ذات بيني وبيني، وأستعيد فيها هيئة الحلم المفقود، والحلم الذي كاد أن يتحقق، أعيد فيها ترتيب الوطن الضائع والوطن المُضيَّع، علني أجدُ الاجابة الخلاصة، في ما إذا كانت القصيدة فاشلة أم لا؟.
المصدر / جريدة الصباح