كتابة – محمد الزيدي / البصرة
يكشف التحقيق عن نسب أكاسيد اليورانيوم التي يتعرض لها سكان البصرة، حيث تنتشر المخلفات المشعة، منذ الحرب الإيرانية العراقية، وتزايدت بعد القصف الأميركي في حرب الخليج الثانية واحتلال العراق، ما نشر مرض السرطان وسطهم.
-يخشى مهدي التميمي، مدير مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة، من ارتفاع أعداد المصابين بالسرطان إلى 3 آلاف حالة بحلول عام 2025، في ظل تسجيل 800 حالة، في الوقت الحالي، حصة الأطفال منها ليست قليلة، أغلبها في المناطق العشوائية الملاصقة للمواقع التي تتكدس بها المخلفات الحربية والنفايات المشعة غربي المحافظة.
الأرقام السابقة وصلت لها لجنة الصحة والرصد بمكتب المفوضية والتي تمتلك فرقا جوالة في كافة المدن لرصد الحالات المصابة بالسرطان التي تعالج بالمشافي الحكومية والخاصة، والحالات التي تعالج خارج المدينة، بحسب التميمي. وتوفي 1277 مصاباً بالسرطان خلال عام 2018، وفق ما يؤكده النائب البرلماني عن محافظة البصرة فالح الخزعلي، قائلا لـ”العربي الجديد”:” هذه الأعداد مرتفعة إذا ما قورنت مع الإصابات التي أعلن عنها المجلس الأعلى للسرطان”.
ويتفاقم عدد الإصابات بالسرطان في عموم محافظات العراق، إذ ارتفعت من 5720 إصابة بمعدل 31.5% لكل 100 ألف نسمة في عام 1991، لتصل إلى 25556 إصابة بمعدل 67.4% في عام 2016، وفق تقرير دائرة البحوث بمجلس النواب العراقي الذي أعده الباحث بالمجلس، أصيل سلمان في فبراير/شباط 2019، بعنوان “نسبة الإصابة بالسرطان في العراق”.
المواقع المشعة في البصرة
تتكون نفايات المواد الخطرة والمشعة من مخلفات معمل الحديد والصلب في البصرة، وبقايا الدبابات والأسلحة والمعامل التي ظلت مدمرة في مسارح العمليات العسكرية خلال الحرب العراقية الإيرانية وتعرضت للقصف الأميركي في حرب الخليج الثانية 1991 واحتلال العراق عام 2003، فضلاً عن بقايا الصواريخ التي أطلقتها القوات الأميركية على مجموعة من الأهداف العسكرية والمدنية، وفق ما يؤكده لـ”العربي الجديد” حبيب العبادي، العميد في الجيش العراقي السابق والمتخصص في معالجة وتفكيك القنابل غير المنفجرة.
وأطلقت القوات الأميركية في حرب الخليج الأولى أكثر من مليون قذيفة على مناطق غرب البصرة، يتراوح وزنها بين 320 و500 طن من اليورانيوم المنضب، حسب دراسة “تقدير مخاطر استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب في العراق” التي أعدتها سعاد ناجي العزاوي، الحاصلة على دكتوراه في الهندسة الجيولوجية البيئية من جامعة كولورادو لعلوم المناجم في اختصاص نمذجة انتقال الملوثات من مواقع النفايات الخطرة.
واستخدمت تلك القوات في حرب الخليج الثانية أكثر من 900 طن من الصواريخ المنضبة باليورانيوم، حصة البصرة منها قرابة 200 طن، ما أدى إلى تكدس المخلفات الحربية في مناطق البصرة وفق التميمي، مؤكدا على وجود 26 موقعاً ملوثاً في مناطق “الدرهمية، الهوير، الرميلة، أبي الخصيب، البرجسية، القرنة، جبل سنام، والفاو” جنوب غرب البصرة وشمالها.
26 موقعاً ملوثاً بمخلفات الاسلحة المشعة في البصرة
تربط الدكتورة العزاوي بين المخلفات الحربية المشعة وبين تفاقم حالات السرطان، قائلة: “سكان البصرة يتعرضون لجرعات إشعاعية عالية تصل قيمتها إلى نحو 200 مرة أعلى من الجرعة الإشعاعية السنوية التي يتلقاها أي شخص من مكان طبيعي في معظم أنحاء العالم، والتي لا تتجاوز 2.4 ملّي سيفَرت Sv (وهي وحدة لقياس جرعة الإشعاع المكافئة)”، مؤكدة أن الجرعة الفعالة التي تعرض لها السكان في قضاء الزبير وغرب البصرة تصل إلى 267.6 ملّي سيفَرت، و167 ملّي سيفَرت تعرّض لها سكان مدينة صفوان المحاذية للكويت، نتيجة اليورانيوم المنضب.
وأجريت دراسة العزاوي المنشورة في المجلة العربية للبحث العلمي عام 2020، على منطقة مكتظة بالسكان تبلغ مساحتها 1200 كيلومتر مربع، شملت مدن صفوان والزبير غرب البصرة والتي تعرضت لجرعات إشعاعية عالية بسبب تلوث اليورانيوم المنضب، وكشفت النتائج أن إجمالي حالات الإصابة بالأمراض السرطانية المميتة وغير المميتة (سرطان الثدي والرئة والجهاز الهضمي) وسرطان الدم (اللوكيميا) المتوقعة في مدينة صفوان بحدود 1930 حالة وتمثل ما نسبته 7.2% من مجموع السكان، وبحدود 9141 حالة في مدينة الزبير، تمثل ما نسبته 4.5% من مجموع السكان، وبحدود 4475 حالة إصابة في غرب مدنية البصرة، تمثل ما نسبته 4.5% من مجموع السكان.
وتعتمد درجة الخطورة الصحية الناتجة عن التعرض الإشعاعي على شدة وزمن التعرض والمسافة، بالإضافة إلى صحة ومناعة الأشخاص الذين يتعرضون للمخلفات المشعة، حسب الدكتورة العزاوي، التي تشير إلى أن سكان البصرة تعرضوا لتراكيز عالية من أكاسيد اليورانيوم استخدمت أثناء القصف الجوي والبري، ونتيجة هبوب العواصف الترابية المحملة برماد تلك العناصر، استنشقها السكان بدرجات متفاوتة واستقرت في أجسادهم، مؤكدة أن سكان البصرة يتعرضون دوماً لجرع إشعاعية إضافية مع كل عاصفة ترابية تنقل مزيداً من هذه الملوثات من الدبابات وناقلات الجنود بعد تعرضها للقصف بالقذائف المشعة.
ويؤكد الدكتور صالح البكري المختص بالطب الباطني وأمراض الدم لـ”العربي الجديد” أن أكاسيد اليورانيوم المشعة، تنتشر على بعد 25 كيلومترا مربعا في الجو، وعند استنشاقها تخترق جسيماتها الدقيقة غشاء الحويصلات الرئوية وصولاً إلى مجرى الدم لتدخل إلى بقية خلايا الأعضاء الداخلية للجسم، مشيرا إلى أن أيونات اليورانيوم المنضب تقوم بالتبادل الأيوني في جسم الإنسان مع المغنيسيوم في خلايا الأعضاء، ما يؤدي إلى تدمير قابلية الجسم على الإصلاح وتعويض الخلايا التالفة، ونتيجة لذلك يصاب الجسم بالأمراض المزمنة والأورام السرطانية.
السكن في وسط الخطر
تحدث الإصابة بالسرطان من خلال دخول اليورانيوم إلى داخل الجسم عن طريق تناول بعض الأطعمة والخضر المزروعة في أماكن مصابة، إضافة إلى أنواع أخرى ناتجة عن أبخرة الاستخراجات النفطية، كبخار الزئبق والمغنيسيوم وأبخرة المعادن والكبريت القاتلة والأتربة الملوثة المستخرجة من الآبار، وفق ما يؤكده الدكتور كمال حسين لطيف، رئيس الهيئة العراقية للسيطرة على المصادر المشعة التابعة لمجلس الوزراء، لكنه يقول لـ”العربي الجديد” إن جميع هذه التفاعلات تجرى في مناطق بعيدة عن الأحياء السكنية، محملاً المسؤولية للأهالي الذين يسكنون على مقربة من تلك الآبار رغم التحذيرات البيئية.
ما ذهب إليه لطيف عن بعد المساكن عن الخطر، يتناقض مع إفادة 3 من سكان جبل سنام وقرية السعيد غرب محافظة البصرة أصيب أقاربهم بأمراض سرطانية، وفق ما وثقه معد التحقيق، ومنهم العراقي مرهون شاكر السعيدي، والذي يؤكد على تكدس مخلفات الأسلحة بالقرب من المساكن في قرية السعيد المعروفة شعبيا بقرية الخردة منذ دخول القوات الأميركية إلى العراق في عام 2003، مشيرا إلى وفاة اثنين من أقاربه جراء إصابتهما بالسرطان.
ويروي المزارع خضير حنون في منطقة جبل سنام جنوب غرب الزبير أن المئات من الأليات المُدمرة بالقصف كانت متروكة قرب القرى والمناطق العشوائية ولجهل الناس بمخاطرها، تعرضت إلى عمليات تفكيك وسرقة أجزاء منها وبيعها في أسواق الخردة إضافة إلى لهو الأطفال فيها مما عرضهم لإصابات سرطانية مباشرة، حسب قوله لـ”العربي الجديد”، مضيفا أن أحد أبنائه البالغ من العمر عشر سنوات أصيب بورم في رأسه اتضح في ما بعد أنها إصابة سرطانية ومازال إلى الآن يتلقى جرعات علاجية.
خلافات حول مكان دفن النفايات المشعة
اتساع المخاوف من بقاء تلك النفايات في مدينة البصرة، دفع النائب البرلماني عن محافظة البصرة جمال المحمداوي بالتقدم بطلب للحكومة مع 50 نائبا بتنظيم التخلص من النفايات المشعة، وفق ما يقول لـ”العربي الجديد”، متابعا: “لن نتنازل عن حق البصرة في العيش بوسط بيئة صحية آمنة، وسنعمل بكل الطرق لخلاصها من المخلفات التي فتكت بها”. وبدأ الخلاف حول التخلص من النفايات المشعة في البصرة عقب تسريب وثيقة رسمية صادرة عن وزارة العلوم والتكنولوجيا في 14 يونيو/حزيران 2019، تشير إلى عزمها نقل نفايات ملوثة من البصرة ودفنها في منطقة صحراوية في محافظة الأنبار غرب العراق. إذ توالت بيانات الرفض من قبل نواب ومسؤولين محليين في محافظتي صلاح الدين وسط العراق والأنبار.
وفي 17 يونيو 2019 أوصت لجنة الصحة والبيئة بإيقاف الإجراءات المتعلقة بنقل النفايات والمخلفات الإشعاعية للحفاظ على سلامة المدنيين. ويصف مدير البيئة في محافظة صلاح الدين المهندس محمد مجيد حمد، قرار دفن النفايات المشعة في المنطقة الصحراوية بأنه “لعب بالنار”، معتقداً بأن عمليات الطمر ستكون لها تأثيرات كبيرة على حياة الناس تمتد لعشرات السنين، وتؤثر على المياه الجوفية التي تستخدم كثيراً في عمليات سقي المزروعات، ما لم تكن عملية الطمر في مواقع خرسانية محصنة وُمعدة لهذا الغرض حتى لا تتسرب الإشعاعات الى التربة ومنها إلى المياه الجوفية.
وينبّه حمد إلى أن ملف النفايات يحتاج إلى جهد وطني مشترك من قبل الجهات المختصة لوضع خطة محكمة للتخلص من تلك المخلفات واختيار الطريقة الآمنة لطمرها، وهذا يتطلب إحالة الملف إلى شركات عالمية متخصصة”. وهو ما تؤيده عضوة لجنة الصحة والبيئة البرلمانية، النائبة اكتفاء الحسناوي، محذرة من أي خطأ قد يحصل أثناء القيام بأي عملية طمر للمخلفات المشعة، بالقول: “نرفض تعريض حياة الأهالي للخطر وتكرار المأساة من جديد”.
المصدر / العربي الجديد